د. ليونارد پولونسكي: ما وراء الإرث
سيجي غولان | 15.05.2025 | تصوير: طاقم معهد فان لير

من وراء أسماء البنايات والصناديق والمِنَح السخيّة، يقف شخص واحد اعتبر أنّ العطاء هو نهج حياة. كان د. ليونارد پـولونسكي (1927-2025) رجلَ أعمال ناجحًا، وتحوّل إلى محْسِن ومتبرّع مؤثّر في إسرائيل والعالَم؛ لكن من وراء هذه الإنجازات كان هنالك إنسان صمّمَت حياتُه الشخصيّة ومعتقداته إرثَه الثقافيّ والتربويّ والاجتماعيّ. هذه حكايةُ مَن لم ينسَ من أين أتى، حكايةُ مَن نجح في إغلاق دوائر كثيرة خلال حياته المديدة والزاخرة. نكتب هذه المقالة على ضوء مقابلة أجريناها مع ابنه مارك پـولونسكي أحد رؤساء مجلس إدارة صندوق پـولونسكي.
البدايات: من بروكلين إلى باريس
وُلِد د. ليونارد پولونسكي في العام 1927 في بروكلين في نيويورك لعائلة يهوديّة متواضعة، وكان هو الابن البكر من إخوته الثلاثة. أدار أبوه دكّانًا صغيرًا لبيع التبغ، وتولّت أمّه أعمال المنزل. وعلى الرغم من الموارد المحدودة، أظهر ﭘـولونسكي قدرات تعلُّميّة مثيرة جدًّا قياسًا إلى سنّه، الأمر الذي قاده إلى الانخراط في المدرسة التجريبيّة تاوسيند هاريس في كوينس؛ إذ شكّلت هذه المدرسة مؤسَّسة تربويّة متميّزة جرى فيها فحص توجُّهات بيداغوجيّة حديثة. في هذه المؤسّسة التي منحت تلاميذها حرّيّة بحثيّة واسعة، بدأ پولونسكي بتطوير عشقه للمعرفة والبحث، فقضى ساعات طويلة في المكتبة العامّة البلديّة في نيويورك (وهو المكان الذي سيصبح لاحقًا أحد أهمّ المواقع في مشاريعه الخيريّة). وطُلِب إلى پولونسكي وهو تلميذ أن يؤدّي القَسَم الإيفينيّ بصيغة مجدَّدة (القَسَم الإيفينيّ: هو القَسَم الذي طُلِب إلى شبّان أثينا الإغريقيّة أن يؤدّوه عند تأهيلهم كمواطنين وجنود): "لن أُبقي مدينتي أصغر، بل سأجعلها أكبر وأفضل، بكلّ ما أملك من قدرات، أو بمساعدة الجميع". هذه الكلمات، التي اعتبرها ليونارد بمثابة قَطْع عهد تجاه مجتمعه المحلّيّ والمجتمع بعامّة، أصبحت مبدأً يوجّهه في حياته المهنيّة والشخصيّة.
عندما بلغ سنّ الثامنة عشرة، في خضمّ الحرب العالميّة الثانية، أنهى ليونارد دراسته في جامعة نيويورك، والتحق بجيش الولايات المتّحدة الأمريكيّة وخدم فيه نحو عام ونصف العام. حصل بعد انتهاء الحرب على تمويل للدراسة بفضل مبادرة حكوميّة لدمج الجنود المسرَّحين في المجتمع، وهي فرصة غيّرت حياته وحقّقت له حُلمًا كان يراوده. رحلته الأكاديميّة قادتْه إلى أوروﭘـا، فدرس لنَيْل الشهادة الجامعيّة الأولى في الأدب في جامعة أوكسفورد الإنـﭼـليزيّة، وواصل دراسته في المجال ذاته إلى حين الحصول على شهادة الدكتوراة في جامعة السوربون في فرنسا التي قَدِم إليها بصحبة "بياتا"، حبيبته منذ أيّام الصبا في بروكلين، التي حصلت على منحة لدراسة الفنون في باريس. بعد إتمام دراستهما الجامعيّة، انتقل كلاهما للسكن في مدينة هايدلبيرﭺ الألمانيّة وعملا هناك في سلك التدريس، فدرّس هو الأدبَ الإنـﭼـليزيّ، ودرّست هي الفنون. بعدئذٍ، انتقلا إلى روما حيث أراد ليونارد مواصلة مسيرته المهنيّة الأكاديميّة؛ وذلك لأنّ الأمر تطلّب موارد ماليّة لم تكن سانحة، واضطُرّ إلى البحث عن عمل مؤقّت في مجال آخر، وهنا كان للحظّ دَوْره؛ فقد اتّجه ليونارد إلى بيع سندات الائتمان، وشكّل الأمر الخطوة الأولى له في عالم الأعمال، وإشارة إلى بداية مسيرة مهنيّة حافلة.

أن نتخيّل عالَمًا أفضل
انتقل ليونارد وزوجته إلى لندن التي استقرّا فيها ووسّعا عائلتهما فيها، وهناك أقام مصلحته التجاريّة الخاصّة في مجال التأمين. أَوْلى أهمّيّة أولى في المصلحة التجاريّة للطاقم الذي عمل معه؛ إذ اعتبر أنّ قول "الشركة هي كالعائلة" ليس مجرّد شعار فارغ يُطْلَق في عالَم الشركات، بل لقد عَدَّهُ منهجًا يُحتذى به. وعلى الرغم من الصعوبات، بدأت مصلحته في الازدهار إلى حين إطلاقها في بورصة لندن في العام 2006. وحتّى قبل إطلاقها في سوق الأوراق الماليّة، بدأ ليونارد بالتبرّع للأجسام التي آمن بها، لكن منذ اللحظة (أي إطلاق الشركة في البورصة) كان بإمكانه أن يستثمر مزيدًا من الموارد في المشاريع التي آمن بها ونجح من خلالها في تخيُّل عالَم أفضل.
المشاريع الخيريّة التي اختارها پولونسكي لم تكن عشوائيّة؛ وكان في كلّ منها خيطٌ يرتبط بقِيَمِهِ. اليهوديّة والعلاقة مع إسرائيل شكّلتا جزءًا من هُويّته، وكان لزوجته أقرباء في البلاد، وفيها أجرى احتفالات "بار مِتْسْـﭬـا" لأبنائه. على ضوء زيارات پولونسكي المتكرّرة للبلاد، بنى علاقات مع شخصيّات من مجالات اهتمامه، وهكذا ولّدت العلاقة مع الجامعة العبريّة في القدس صداقة عميقة مع الـﭘـروفيسور غابريئيل موتسكين، وهي صداقة أَفْضَت إلى إقامة مشروع حياته، ألا وهو الأكاديميّة على اسم پولونسكي.
تعمل أكاديميّة ﭘـولونسكي للدراسات المتقدّمة في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة كجزء من معهد ﭬـان لير في القدس، وهي تجسّد حُلمه بمكان يمكّن الباحثين الشبّان المتفوّقين من أرجاء العالم من التطوُّر والازدهار. هذا الإطار المتميّز يقدّم مِنَح ﭘـوست دكتوراة في مجالات عديدة، ويشجّع على بناء شراكات داخل المجتمع الأكاديميّ المتنوّع. البناية التي تستضيف الأكاديميّة ليست مجرّد مركز أبحاث، بل تُشكِّل كذلك عملًا معماريًّا استثنائيًّا حصد الكثير من الجوائز والاعتراف بسبب تصميمه الابتكاريّ والاستدامة البيئيّة التي يمثّلها.
هذه الأكاديميّة ليست المؤسّسة الوحيدة التي دعمها ﭘـولونسكي، إذ حظِيَ قسم التصميم الصناعيّ في معهد بتسلئيل هو كذلك بتبرّعه السخيّ. تحمّس ليونارد للتوليفة التي عرضها هذا المجال بين الفنّ والممارسة، وقدرته على تحسين جودة حياة الناس. في هذه الحالة أيضًا أسفر هذا المشروع عن علاقات شخصيّة، وهذه المرّة كانت مع الـﭘـروفيسور عزري طرازي، رئيس القسم الذي حظِيَ حُلمه وقدراته بتقدير پولونسكي العميق.
الأمر الذي ميّز ﭘـولونسكي عن سائر المتبرّعين هو الاهتمام الحقيقيّ والعميق الذي أظهره تجاه الأشخاص أنفسهم. الكلمة اللاتينيّة المرادفة لكلمة الإحسان هي "فيلانتروپيا،" وهي تعني حرفيًّا حُبّ البشريّة، وقد عكس هذا التعريف على نحوٍ دقيق دوافعَ ﭘـولونسكي. ترافقت الـمِنَح التي وفّرها للطلبة الأثيوبيّين في الجامعة العبريّة وفي جامعة حيفا باهتمامه الصادق برفاهية هؤلاء الطلبة، وببحثه عن سبل إضافيّة لمساعدتهم، كذلك طلَبَ طَوال الوقت الحصول على معلومات مستجدّة حول التطوُّر الشخصيّ والمهنيّ لزملاء ﭘـولونسكي؛ ولم يكن الأمر طلبًا بيروقراطيًّا بقدرِ ما كان بدافع الفضول الإنسانيّ الصادق، وكمصدر للإلهام. اعتبر ﭘـولونسكي توفير الفرص للآخرين رسالة ساميَة، ومنحه نجاحهم حافزًا لمواصلة هذه الدرب.
مبنى أكاديمية بولونسكي، للدراسات المتقدمة في العلوم الانسانية والاجتماعية
إغلاق الدوائر
يمكن التعرُّف بسهولة على الرابط المباشر بين طفولة ﭘـولونسكي والتبرّعات التي قدّمها في حياته اللاحقة. المكتبة التي مكّنته من اكتشاف عوالم جديدة وهو فتى في مقتبَل العمر تحوّلت إلى مكان بادر فيه إلى تأسيس معرضها الأكثر رواجًا وشعبيّة؛ إذ فيها عَرْض لأغراض نادرة من مجموعة تضمّ 56 مليون غرض، الأمر الذي مكّن الجمهور من الاطّلاع على كنوز معرفيّة كانت خفيّة حتّى ذلك الوقت. المنحة التي غيّرت حياته بعد خدمته العسكريّة ولّدت دعمه لطلبة جامعيّين يتحدّرون من خلفيّات متنوّعة، كما دفعت إلى إقامة أكاديميّة ﭘـولونسكي. عشقه للمسرح والأدب، ولا سيّما مؤلَّفات شكسـﭘـير، دفعه إلى إقامة مركز شكسـﭘـير في مسقط رأسه بروكلين.
قلّة قليلة من البشر يحظَوْن بفرصة التبرُّع ممّا حصلوا عليه، ورؤية ثمار مشاريعهم. ﭘـولونسكي الذي حظِيَ بعمر مديد فاز بالأمرَيْن هذَيْن معًا.
في رسالة بعث بها إلى الـﭘـروفيسور موتسكين رئيس معهد ﭬـان لير بعد نحو عام ونصف على افتتاح الأكاديميّة التي تحمل اسمه، بدَتْ جليّةً حماستُه الشديدة لتطوُّر المشروع: "لقد قطعنا شوطًا طويلًا منذ انطلاق مساعينا المتواضعة قبل سنوات طويلة في الجامعة العبريّة. لم تكن هذه الأكاديميّة لترى النور لولا التزامك الخلّاق وتجاربنا المشتركة. أستشرفُ حقبة تعجّ فيها البناية بأشخاص يأتونها من كلّ فجّ عميق، فتشهد مسيرتهم المهنيّة ودائرة أصدقائهم إثراءً ملحوظًا بفضل السنوات المثمرة التي يقضونها في أكاديميّتنا في القدس". لا تعكس هذه الكلمات تواضع الرجل فحسب، بل كذلك إيمانه العميق بقيمة الصداقة والتعاون، إذ اعتبر أنّ المسيرة المهنيّة الأكاديميّة والصداقات والمتولّدة مُهمّتان، وتحملان القيمة ذاتها.
في نهاية العَقد السابع من حياة پـولونسكي، وبعد أن تزوّج ثانيةً، لم يُخْلِد إلى الراحة، بل عاد إلى مسقط رأسه نيويورك، وحصل على تأشيرة طالب وبدأ يدرس لنيل شهادة دكتوراة إضافيّة في الأدب، وانكبّ -كسائر الطلبة المجتهدين- على تقديم الوظائف والامتحانات، وسعى إلى الحصول على علامات عالية (وكان له ما أراد). بالإضافة إلى ذلك، واصل ارتياد جلسات الهيئة الإداريّة للصندوق الذي أقامه، على الرغم من سنّه الطاعنة. وإذا ما تذكّرنا قسَمَه الإيفينيّ من طفولته، حيث كرّر فحواه مرّات عديدة في الخطابات التي ألقاها وفي المحادثات التي أجراها خلال حياته، يمكن قطعًا القول إنّ د. پولونسكي لم يُبْقِ "مدينته" صغيرة، بل جعلها أكبر وأكثر ثراء بكثير.