من يخاف من الكتب بالعربيّة؟ حول فيلم "المهّربون"

يونتان مندل | 21.07.2025 | تصوير: من الفيلم

המבריחים

في أحد المشاهد الحزينة – وهي كثيرة – من هذا الفيلم الحلو المرّ، يعود بطلا العمل، ميشيل الراهب وطوني قبطي، إلى البلاد قادمَيْن من العاصمة الأردنية عمّان، عبر معبر الشيخ حسين البرّي (نهر الأردن)، وعند وصولهما إلى نقطة الحدود الإسرائيلية، إلى المكان الذي يتجسّد فيه الشعور بالتّمييز العميق الذي يختبره الفلسطينيون مواطني إسرائيل، كما وصفه الكاتب سلمان ناطور: " هنا الوطن يا عزيزتي فدوى، وهنا يعلّموننا عندما نغادره من هم أسياد هذه الأرض، عندما نعود لنعبر هذه البوابة [...] يعلّموننا أيضا من هم أسياد هذه الأرض...." (ستون عاما-رحلة الصحراء، سلمان ناطور).

يعود الاثنان إلى الوطن بعد زيارة عدد من المكتبات ومستودعات الكتب في عاصمتين عربيتين: القاهرة في مصر، وعمّان في الأردن، حاملَين معهما سلاحًا سرّيًا متطوّرًا للغاية: كتبًا أدبية وفكرية باللغة العربية. يدير الاثنان مكتبة "مقهى يافا' عند تقاطع شارعي يهودا مرغوزا وييفت في مدينة يافا، ويسعيان ليكونا وكيلَي أدب، وتاجرَي كتب، ومزودَيْن بالثقافة، وكل ذلك في محاولة لإحضار ولو نزرٍ يسير من الفعل الأدبي والإبداعي لعالم الكتاب العربي إلى العاصمة الثقافية لفلسطين التاريخية. وعندما يقتربان من نقطة تفتيش الحدود على الجانب الإسرائيلي، تبدو عليهما علامات القلق؛ إذ سيُطلب منهما قريبًا فتح الحقائب، وسيجدان نفسيهما مضطرَّين للاعتراف بأنهما يحاولان إدخال روايات، وقصصًا قصيرة، وكتبًا للأطفال، ودواوينَ شعر، جميعها مكتوبة باللغة العربية.

"إلى هنا من فضلكما"، تقول لهما إحدى حارسات الأمن في المعبر. تحاول أن تكتشف ما الذي يخبئانه في حقائبهما، وسرعان ما تطلب تعزيزات عاجلة حين يتّضح لها أن الأمر يتعلق بكتب باللغة العربية. تُعلمهما أن كل ما أُنتج في سوريا ولبنان سيُصادَر، وتطلب منهما جوازي سفرهما، وأن يُفصحا عن مالكي كل واحد من هذه الكتب. يحاول ميشيل أن يقنع رجل الأمن الذي انضم للتوّ إلى زميلته، فيقول له: "انظر، هذا مثلًا نجيب محفوظ، إنّه مصري". ينظر إليه رجل الأمن كمن لا يصدق ما رأت عيناه للتو، ويشير إلى دار النشر – التي يبدو أنها في بيروت – ثم يضع الكتاب في كومة الكتب المصادَرة. "آه، هذا بسبب دار النشر فقط؟" يسأل ميشيل، لكن رجل الأمن لا ينظر في عينيه حين يجيبه بحدّة: "لا يهمّني إطلاقًا من هو هذا الشاعر."

رجل الأمن الإسرائيلي في معبر الشيخ حسين "لا يهمّه إطلاقا من هو هذا الشاعر". لا يهمّه انّ نجيب محفوظ هو الأديب العربيّ الوحيد الذي فاز بجائزة نوبل للأدب، وأن مسيرته الأدبية الغنية قد أثمرت عن 35 رواية، وأكثر من 300 قصة قصيرة، و26 سيناريو ومئات المقالات الفكريّة وسبع مسرحيات، وأنه على ما يبدو لم يكتب قصيدة واحدة في حياته. لكن رونين، رجل الأمن الإسرائيلي"لا يهمّه إطلاقا من هو هذا الشاعر".

عندما يخرج ميشيل وطوني من المعبر الحدوديّ ويدخلان إلى السيارة التي سوف تقلّهما إلى يافا، تكون حقائبهما قد نقصت بمقدار النصف تقريبًا؛ إذ بقي جزء كبير من 'الكنوز' التي أحضراها معهما من عمّان عند نقطة المعبر. ترصد الكاميرا وجهيهما المكفهرّين عند انطلاق السيارة، ويبدو أنهما بدآ يدركان أن حربهما الدون كيشوتية لجلب قدر يسير من معارض الكتب العربية ليست سوى معركة ضد طواحين الهواء. يدخل الرائع تامر نفّار إلى الصورة (يرافق صوته الموسيقى التصويرية بعدد من الأغاني)، بأغنية: 'بحبْها، بكرَهْها'.

 

بحبها بكرهها                                                          

بكرهها وبحبها                                                        

تعيشْني كم مرّة                                                        

تقتُلني مليون مرّة                                                     

شو بحب وبكره هالبلدة                                          

فيكي عشر لغات ولا أي لغة بتحكي منطق

كل ما أفكر أرحل من البلدة                                      

بلاقيش كفاية وساع لذكرياتي في هالشّنتة

والجميل في ذكرياتنا انها ما بتنتسى                          

والمؤلم بذكرياتنا انها ما بتنتسى                               

طول ما فيش خير ما فيش حب ففيش بلد                              

صباح الخير                                                            

بس فيش بلد                                          

إن انعدام اهتمام الدولة ومؤسساتها ومدارسها وحيّزها العام ومشهدها اللغوي باللغة العربية يُشكّل قضية مؤلمة وحزينة يُمكن استشفافها من مشاهدة هذا الفيلم. إن التعامل العدائي مع اللغة العربية، الذي ينبع غالبًا من تصورٍ أمنيّ تفريقي، يسعى إلى محو الفرصة التي تتيحها هذه اللغة لعلاقات قوى بديلة بين اليهود والعرب، سواء في البلاد أو في المنطقة بأسرها؛ علاقات قوامها المساواة والعدل والاحترام المتبادل والاندماج، لا الهيمنة. ومن خلال هذا التعامل العدائي، تسعى الدولة أيضًا إلى محو العلاقة التاريخية العميقة بين مواطنيها اليهود واللغة العربية. وإلّا، فكيف يمكن فهم الحظر الذي فرضته دولة إسرائيل على إدخال كتاب آخر، هو 'كتاب الخُزَري' لمؤلّفه يهودا اللاوي (يهوذا هَليفي)، إلى البلاد؟ ترجمة الدكتور نبيه بشير من اللغة الأصلية (العربية اليهودية، أي العربية المكتوبة بالأحرف العبرية) إلى العربية بأحرف عربية، تم توقيفها على الحدود ومُنع دخولها إلى البلاد، بحجّة أنها 'تخالف القانون الساري على التجارة مع العدو'. ربما تُشكّل اللغة العربية، من منظور الدولة، عدوًا عميقًا يتربّص في الداخل؛ عدوًا يسعى إلى الوصل لا الفصل، إلى صناعة السلام لا الخصام.

המבריחים

المعركة ضد طواحين الهواء التي ترافق الفيلم على امتداده، ليست موجهة إلى المؤسسة الإسرائيلية فحسب، بل تمتد أيضًا إلى القيود المفروضة على استيراد الكتب من العالم العربي إلى إسرائيل، وإلى حوانيت الكتب الإسرائيلية (سيُسَرّكم أن تعلموا أن البائعة في شبكة ستيماتسكي تخبر الاثنين بأن الدكان يضمّ كتابًا واحدًا فقط باللغة العربية)، وكذلك إلى مؤسّسات رسمية، كالمكتبة الوطنية، التي تتيح لهما استعارة الكتب لكنها لا تسمح بطرح سؤال حول إعادة الكتب العربية إلى أصحابها الأصليين.

المعركة ضد طواحين الهواء – كما يُظهر الفيلم – لا تقتصر على النقد الموجّه إلى الخارج، أي إلى الدولة ومؤسساتها، بل تُوجّه أيضًا إلى الداخل، إلى المجتمع العربي–الفلسطيني ذاته. ففي رحلات طوني وميشيل (أو دون كيشوت وسانشو بانشا) عبر البلاد والعالم، نراهما يطرحان قضيّة موجعة تتعلق بهيمنة اللغة العبرية في إسرائيل، وتأثير ذلك على أنماط القراءة في صفوف أبناء المجتمع الفلسطيني هناك. العربية هي لغة الأم لهذا المجتمع، لكن موقعه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في البلاد، إلى جانب المكانة المتدنية للغة العربية في الحيز العام – ولا سيما غياب جامعة عربية، وانعدام حضور محترم للغة في المساحات الواقعة خارج البلدات العربية – يسهمان في تراجع خطير لمستوى القراءة بالعربية، ويُفضيان إلى قطعٍ قسري للعلاقة الثقافيّة بين الفلسطينيين في إسرائيل والعالم العربي. في أحد المشاهد الكئيبة في الفيلم، ينكبّ ميشيل وطوني على التحضير لمعرض كتاب يُقام في يافا: "نراهما يجهّزان الطاولات، ويتحدّثان مع المزوّدين، ويلصقان الإعلانات، ويزيّنان الطاولات بأغطية احتفالية... لكن الجماهير العربية تُحجم، للأسف، عن ارتياد المعرض."

نتحدّث عن فيلمٍ حزين، لكنه مفعم بالحساسية والبراءة أيضًا. في مشهدٍ جميل آخر، يتسلّل الحماس إلى قلب ميشيل حين يرى التشكيلة الضخمة من الكتب في معرض القاهرة، فيتساءل: "إذا كان هذا ممكنًا في القاهرة، فما من سبب يمنع أن يكون ممكنًا هنا أيضًا [في البلاد]." هذه العبارة، التي تُقارن بين ما يحدث في إسرائيل – في تعاملها غير الطبيعي مع العرب واللغة العربية – وما يجري في القاهرة، تحمل من جهة طابعًا جميلًا ومفعمًا بالتفاؤل، لكنها من جهة أخرى منفصلة تمامًا عن الحواجز الكثيرة المفروضة على اللغة العربية، وعلى قرّائها ومتحدّثيها.

إلى هذه الفجوة بين الواقع والمأمول، تتطرق المقابلات المُدرَجة في الفيلم، وبعضها مع زملائي في سلسلة "مكتوب" (يهودا شنهاڤ–شهرباني، إياد برغوثي، ولؤي وتد)، المخصّصة لترجمة الأدب العربي إلى اللغة العبرية وفق نموذج مشترك يهودي–عربي. هذه المقابلات وغيرها تربط بين حضور الأدب العربيّ وبين إمكانيات التغيير السياسي عبر اللغة والأدب، وتُضيف بذلك لبنةً مهمّة إلى هذا الفيلم الصغير–الكبير، الذي يفوق فيه الكلّ مجموع أجزائه.

في الأيام التي أقرت فيها وزارة التربية والتعليم – مرة أخرى، كما حدث في خمسينيات القرن الماضي، وبعد حرب يوم الغفران، وبعد الانتفاضة الثانية، وللمرة المليون – أنّ تعليم اللغة العربية سينحصر في الخطاب الأمني، وأنه سيُعاد قريبًا تأسيس دائرة في سلاح الاستخبارات العسكرية لتدريس العربيّة، وأن دراسة اللغة العربيّة والإسلام ستُصبح إلزامية لضباط الاستخبارات (وهو ما دفع تسفي يحزكيلي إلى تصنيف الخبر ضمن 'الأخبار السارة التي تمخّضت عنها الحرب')، لم يبقَ لمريدي العربية سوى الأمل بأن تنتصر الحقيقة التي يحملها ميشيل وطوني في نهاية المطاف.

ربما، في يوم ما، ستعتمد وزارة التربية والتعليم على الأدب العربي والشراكة اليهودية–العربية، لا على الاستخبارات، لتعليم اللغة العربية؛ وربما سيُتاح شراء الكتب من لبنان وسوريا ومصر والعراق، ويُصبح من الممكن قراءتها هنا، في هذه البلاد؛ وربما، ذات يوم، سنعثر في 'ستيماتسكي' على رفٍ كاملٍ للكتب العربية.

في مقابل جدران الكراهية الآخذة في التعاظم تجاه المجتمع العربي وتمثيلاته السياسية والثقافية، وفي خضم أهوال حرب القتل في غزة، حيث تُنسى فيها حياة الناس – الفلسطينيين واليهود على حدٍّ سواء – لم يتبقَّ لنا سوى أن نتأمل أن يغلب المنطقُ القوةَ، وأن يصبح هذا المكان أفضل، وأن تسود فيه كراهية أقل ومستقبل أكثر إشراقًا. لأنه، "طول ما فيش خير ما فيش حب ففيش بلد ".  

____

يونتان مندل هو بروفيسور (أستاذ مشارك) في قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة بن غوريون في النقب، ونائب رئيس تحرير سلسلة 'مكتوب' التابعة لمعهد ڤان لير في القدس، والتي تُعنى بترجمة الأدب العربي إلى اللغة العبرية. ومن بين المجالات البحثية التي يتناولها مندل نذكر: مكانة اللغة العربيّة في إسرائيل وطرائق تدريسها، وعلاقات اليهود والعرب من خلال اللغة، وقضايا اجتماعية وسياسية مرتبطة بالصراع اليهودي–العربي في البلاد.

سيُعرض فيلم 'المهرّبون' في معهد فان لير يوم الثلاثاء الموافق 29.7.2025، في تمام الساعة الثامنة مساءً. ويعقب العرض ندوة يشارك فيها مخرجا الفيلم: طوني قبطي وينيف بيرمان، إلى جانب منال صعابنة، مؤلّفة وناشرة كتب أطفال باللغة العربية، ونيطاع تلمود من معهد ڤان لير.

الانضمام الى القائمة البريدية